
لقد حرص الغنوشي منذ بداية انهيار نظام الاستبداد على البقاء في أعلى هرم السلطة لكن الارادة الشعبية فرضت أن يتحول من رئيس غير دستوري الى وزير أول لحكومة احتفظ فيها التجمع بالوزارات السيادية، ومرة أخرى وبفعل نفس الارادة الشعبية تم تشكيل حكومة ثانية وبقي الغنوشي على رأسها، ووقع تسويقها على أنها حكومة انتقالية ستتحول بالبلاد الى الديمقراطية المنشودة. وما اصرار الغنوشي على البقاء على رأس هذه الحكومة الا خدمة لأطراف داخلية و اقليمية ودولية، تقريبا هي نفسها الاطراف التي خدمتها الحكومة الاولى لكن مع تغير في التكتيك السياسي. بقي الغنوشي في الحكومة الثانية كرمز للنظام البائد، رمز استأنست به بقايا ذلك النظام حتى تغطي على جرائم الفساد التي ارتكبتها في حق الشعب وربحا للوقت لمزيد تفعيل"الفوضى الخلاقة" وخلط الاوراق بذريعة افتقاد الأمن، لكن اصرار الشعب على انجاح ثورته وقف سدا منيعا في وجوههم وأصبح وجوده غير ذي فائدة ولا بد من تغيير الرمز/الشخص.
أما اقليميا فوجود الغنوشي على رأس الحكومة تم تسويقه من قبل الانظمة الاستبدادية في الدول العربية على أنه استمرار للنظام السابق وعلى أن ما تم في تونس في النهاية هو انتفاضة وليست ثورة لكن ذلك لم ينطل على الشعوب التائقة الى الحرية والانعتاق، فسقط النظام المصري بفعل الارادة الشعبية الباسلة ونلاحظ الان ترنح النظام الليبي أمام ثورة و صمود أحفاد عمر المختار الطامحين الى الكرامة والحرية، وفي اليمن يواجه نظام عبد الله صالح نفس المصير وتمتد الموجة الآن الى الاردن وعمان والبحرين. بهذا التحول الاقليمي الهام لم يعد لوجود الغنوشي على رأس الحكومة أية فائدة اقليميا.
على المستوى الدولي وفي اطار المشروع الأمريكي الصهيوني تحت مسمى" الشرق الأوسط الكبير" لادماج الكيان الصهيوني في الجسم العربي الاسلامي والتحكم في المنطقة، فقد فشل الغنوشي في كبح جماح ثورة الكرامة وفي الحد من ارتداداتها في المنطقة، وأدت الى خلخلة ذلك المشروع بل وضربه في العمق بتدعم خط المقاومة لذلك الكيان ، هذا الكيان الذي أصبح وجوده مرتهنا لارادة شعبية مركزها فلسطين بعد أن كان يجد أكثر مما يطلب من أنظمة استبدادية لا تفكر الا في الحفاظ على وجودها بتحالف عضوي معه. بناء على ذلك لم تعد ورقة الغنوشي الورقة التي يمكن أن يعتمد عليها في أي موضع خاصة مع تواصل الضغط الشعبي من أجل استكمال الثورة فعقب استقالته استقالت وزيرة الخارجية الفرنسيةميشال اليو ماري صديقة العائلة الحاكمة سابقا وصرحت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون على أن دولتها ستتعامل مع المنطقة في ظل المتغيرات الجديدة "تعاملا استراتيجيا وليس قيميا مثل ما كانت تفعل".
والواضح الآن أن هناك مناورات لمزيد ربح الوقت وارباك الثورة خاصة على المستوى الداخلي، فأيتام النظام البائد وفي كل المواقع يسعون لتحقيق ذلك وبكل الطرق بما في ذلك التشكيك في الثورة و أهدافها وبث الفتنة بين الجهات وبين الجيش الوطني والشعب بافتعال التصادم معه وترويج الاشاعات وتقزيم كل نفس وطني صادق من خلال اعلام محلي يجذب الى الوراء ولم يتخلص بعد بالكامل من لونه البنفسجي/ النوفمبري. لكن رغم ذلك تبقى ارادة هذا الشعب أقدر على اتمام ثورته وافشال كل الخطط التدميرية، ارادة تحث على مزيد من توحد كل القوى الوطنية الحرة والمنخرطة عضويا في هذه الثورة والتركيز أكثر على ما يوحد و تجنب ما يفرق، وليس هناك الآن شيء يوحد أكثر من انجاح ثورة شعب عاش الاستبداد والتهميش أكثر من نصف قرن والوقوف في وجه القطط السمينة من الفاسدين والمتربحين من أزلام النظام البائد ووضع حد للانفراد باتخاذ القرار على غرار ما تم عند تعيين الوزير الاول الحالي.