حوار حول: الشّرعيّة الحاليّة للسّلطة، المجلس التّأسيسي، نظام رئاسي أم برلماني

على ضوء الوفاق السياسي الذي انتهى الى تقرير انتخابات مجلس تأسيسي يوم 24 جويلية بدأ النقاش و الجدال في تونس حول التفاصيل القانونية المتعلقة بهذا الموضوع. و في هذا السياق القينا بعض الأسئلة على أحد مدوّنيها وأحد الكفاءات القانونية الشابة الأستاذ محمّد نجيب بن حمّودة الحقوقي المختصّ في القانون العامّ. و فيما يلي نص الحوار:

سؤال: سيقع الآن وفق مرسوم من الرئيس المؤقت تعطيل العمل بالدستور الحالي، و هناك من يعتبر أن ذلك لا يعني حل المؤسسات التشريعية فقط بل كل مؤسسات الدولة النابعة من الدستور: هل ترى هذه الانتقادات صائبة أم مبالغ فيها؟
 محمّد نجيب بن حمّودة: أوّلاً المرسوم اللّذي أعلن عنه الرّئيس المؤقّت و اللّذي سيحمل تنظيمًا مؤقّتا للسّلط حتّى موعد إنعقاد أولى جلسات المجلس التّأسيسي اللّذي سيقع إنتخابه هذه الصّائفة، هذا المرسوم ليس من المؤكّد أنّه سيعلن صراحة و بشكل كامل عن تعطيل دستور 59 . ليس لديّ علم شخصيّا بمحتوى هذا المرسوم المتوقّع، لكن حسب خطاب السّيّد فؤاد المبزّع و حسب التّسريبات المتوفّرة عن المفاوضات السّابقة لذلك الخطاب فإنّه يبدو أنّ التّوجّه العامّ الآن هو أن يُعتمدَ على ذلك الدّستور في جانبين على الأقلّ: الأوّل للإقرار بشرعيّة الرّئيس المبزّع كرئيس قائم أو فعلي لربطه بمبدإ إستمراريّة الدّولة، و هو ما يُستشفّ من خطاب المبزّع يوم 3 مارس حيثُ ذكّر بشرعيّة رئاسته وفق الفصل 57. مبدأ إستمراريّة الدّولة


و بتبسيطيّة مقصودة هنا تعني أن تكون هناك دائما سلطة ما تشرف على أجهزة الدّولة حتّى لا تؤول الدّولة للإنهيار و المجتمع للفوضى. الجانب الآخر اللّذي قد يعتمدُ فيه على دستور 59 هو الجانب « التّقني » الخاصّ بصلاحيّات الرّئيس، كتعيين الوزراء و سامي موظّفي الدّولة و قيادة القوّات المسلّحة و تحديد السّياسة العامّة للدّولة، إلخ…هذا الإستبقاء الجزئي لدستور59 يلغي عنه شرعيّته و يبقي على جزء من قيمته التّنظيميّة الشّكليّة، بحيث يغلب مرسوم التّنظيم المؤقّت للسّلط على ذلك الدّستور في كلّ النّقاط المختلفة بينهما، و هو ما يوفّر الإجابة عن الجزء الثّاني من سؤالك: فلو إفترضنا أنّ المرسوم سيحلّ مجلسي النّوّاب و المستشارين فإنّ بقيّة المؤسّسات اللّتي تستمدّ شرعيّتها من دستور 59 ستبقى قائمة بما أنّها لا تمثّلُ نقطة خلاف بين النّصّين، و من هذه المؤسّسات المحكمة الإداريّة، و دائرة المحاسبات

سؤال: ألا يمكن في ظل الوضع الحالي أن نتحدث عن غياب الشرعية عن كل مؤسسات الدولة بما في ذلك رئاسة الجمهورية المؤقتة و الحكومة المؤقتة؟


محمّد نجيب بن حمّودة: هذا السّؤال يحيلنا على الجدل القائم بين أنصار الشّرعيّة الدّستوريّة و أنصار الشّرعيّة الثّوريّة.منذ 14 جانفي و حتّى 3 مارس كان الإتّجاه هو مواصلة العمل بدستور59، لكنّ ظروف البلاد إقتضت تساهلا كبيرا في تأويل و تطبيق عدّة فصول من ذلك الدّستور و هو تساهلٌ وصل إلى درجة الخرق في بعض التّفاصيل، فمثلا لو أقررنا بشرعيّة الرّئيس المؤقّت وفق الفصل 57 على إعتبار هروب بن علي هو من باب العجز التّامّ كما جاء في قرار المجلس الدّستوري بتاريخ 15 جانفي، فإنّ الحكومات اللّتي تعاقبت منذ ذلك التّاريخ لا يمكن إضفاء الشّرعيّة الدّستوريّة عليها لأنّ نفس الفصل إتّجه إلى الإبقاء على الحكومة القائمة وقت بدء الشّغور في الرّئاسة، و الحكومة القائمة يوم 14 جانفي هي حكومة تسيير أعمال تضمّ الأعضاء اللّذين كانوا فيها يوم 13 جانفي أي قبل أن يتمّ حلّها و تتحوّل إلى حكومة تسيير أعمال في اليوم الموالي…الحقيقة أنّ هذه الشّرعيّة الدّستوريّة كانت شكليّة و ضعيفة جدّا وبقيت طيلة هذه الأسابيع القليلة تجدُ تبريرا لها في مبدإ إستمرار الدّولة و التّوافق الشّعبي الضّمني عليها، لكن و كما قال الرّئيس المؤقّت يوم 3 مارس ما فتأت أن « تجاوزتها الأحداث »، هذا التّجاوز يتمثّل أساسا في إنطفاء دعم الشّعب للدّستور القائم و مطالبته بإنتخابات تأسيسيّة تُنتجُ دستورًا جديدًا. هذا يعني أنّنا و منذ الإعلان يوم 3 مارس عن الإنتخابات التّأسيسيّة القادمة قد دخلنا فعلاً مرحلة جديدة تستمرّ فيها الحكومة وفق شرعيّة ثوريّة مُطلقة، أي أنّنا لا زلنا في نطاق شرعي لكن ليس من نفس النّوع، فالشّرعيّة الثّوريّة القائمة الآن هي شرعيّة شعبيّة، و نذكّر هنا أنّ الشّعب هو دائمًا مصدر السّيادة، بحيثُ ما إن ينقطع الدّعم الشّعبي لهذه الحكومة فإنّها تفقد شرعيّتها، و هو ما يفسّر إعلان الرّئيس المؤقّت أنّهُ سيستمرّ في رئاسته ب »دعم » من الشّعب اللّذي توجّه له بالكلام و ليس على أساس الدّستور اللّذي تجاوزته الأحداث. هذا يعني أيضا أنّ السّلطة الحاليّة عليها أن تعمل تحت سقف توافق وطني و شعبي واسع حتّى لا تفقد شرعيّتها الجديدة أثناء المرحلة الإنتقاليّة.
سؤال: الدستور الجديد سيكون محورا مركزيا لصراع مختلف الأطراف السياسية. ما هي الاسس التى من دونها لا يكون الدستور قويما..كدوره في الحيلولة دون سطوة « الدولة » مثلا؟

محمّد نجيب بن حمّودة: هناك بالفعل أسسٌ أصبحت الآن تاريخيّة بفعل ترسّخها في الدّيمقراطيّات التّقليديّة لا يمكن لأيّ دستور حديث يدّعي إرساء نظام ديمقراطي التّغاضي عنها أو الإستنقاص منها وهي تتمثّل في مبدإ تفريق السّلط الثّلاث (تشريعيّة، تنفيذيّة،و قضائيّة)،ضمان الحرّيّات العامّة و الخاصّة، مبدأ الإنتخاب الحرّ المباشر أو غير المباشر للسّلطتين التّنفيذيّة و التّشريعيّة (في بعض البلدان القضائيّة أيضا). هناك من يضيفُ أيضا مبدأ التّداول على السّلطة، وهو مبدأ و إن كان يمكنُ إخضاعهُ جزئيّا للقاعدة الدّستوريّة بتحديد صارم لمدد النّيابات الإنتخابيّة، فإنّه يبقى مبدأً مرتبطا بالأشخاص و ليس بالأحزاب،
فمثلا في الولايات المتّحدة الرّئيس لا يمكنه البقاء في السّلطة أكثر من ثماني سنوات (أي مدّتين إنتخابيّتين) و لكنّ حزبه يمكنه نظريّا البقاء في السّلطة لمدّة أطول بكثير من ذلك عبر مرشّحين آخرين، لذلك نتحدّثُ هنا عن ظاهرة سياسيّة أكثر منها قانونيّة. الحقيقة أنّ هذه المبادئ،بغضّ النّظر عن طريقة تنظيمها دستوريًّا، هي كلّ ما للدّستور أن يُقدّمهُ من أجل الحيلولة دون تسلّط الحاكم و قمعه مثلما عانى التّونسيّون تحت النّظام البائد.
أنتَ تحدّثت في سؤالك عن « سطوة » الدّولة، و السّطوة يمكن أن تكون لها دلالات مختلفة، فإن كان المقصود بها التّضييق المبالغ فيه على الحرّيّات الفرديّة أو العامّة، بمنأى عن القمعيّة الدّكتاتوريّة، فهذا يحيلنا على الآليّة الدّستوريّة لضمان تلك الحرّيّات. الصّيغة المُتّبعة عمومًا هي أن يُعلَنَ أنّ الدّستور يضمن تلك الحرّيّات ثمّ يحيل في ممارستها على القانون، لكن رأينا بالكاشف خلال الحقبة الماضية أنّ هذه الصّيغة لم تضمن فعليًّا تلك الحرّيّات. و لئن يرى الكثيرون أنّ العيب كان في الممارسة و ليس في النّصّ الدّستوري (و هذا صحيح إلى درجة كبيرة)، فإنّ إحدى خصائص النّصّ القانوني مهما كان نوعه تكمن في قابليّته للتّأثّر و التّأقلم، سلبا و إيجابًا، مع ميزان القوى داخل المجتمع، و قد أصبح الآن ميزان القوى لصالح الشّعب اللّذي نادى في ثورته بالكرامة و الحرّيّة، و هي مطالبُ لها علاقة وطيدة بقسم الحرّيّات الدّستوريّة، و إعتقادي أنّ المجلس التّأسيسي القادم لن يعدم حيلة في إبتداع وسائل و ميكانيزمات جديدة تُبطلُ أيّة محاولة للنّيل من تلك الحرّيّات. يمكن طبعًا في هذا السّياق الإستئناس بتجارب الدّول الدّيمقراطيّة الأخرى، لكن أمامنا أيضا فرصة تصوّر حلول جديدة خاصّة بنا كإحداث هيئة قضائيّة خاصّة بالحرّيّات العامّة تنظر في إعتداءَات السّلطة بكامل أجهزتها على تلك الحرّيّات و إسنادها صلاحيّات إداريّة مباشرة للرّفت من الوظيفة العموميّة أو الإحالة على المحاكم الجنائيّة، أو كإحداث محكمة دستوريّة تصدرُ أحكامًا إلزاميّة لكلّ السّلط حول دستوريّة القوانين اللّتي قد يكون بها تضييقٌ غير عادي على الحرّيّات مع فتح باب اللّجوء إليها للمنظّمات و الجمعيّات المعنيّة بالدّفاع عن الحرّيّات العامّة و غيرها من الهيئات حسب موضوع القانون…قد يُفهمُ أيضا من « سطوة الدّولة » ما يعبّرُ عنه عادة ب »هيبة الدّولة »، أو بالتّحديد المبالغة في فرض هيبة الدّولة، وهو موضوع ذو علاقة جزئيّة بإستعمال العنف الشّرعي، فالدّولة هي وحدها اللّتي لها حقّ إستعمال العنف لفرض القانون و هو أمرٌ بديهي لا يمكن المساس بمبدئيّته لكن لابُدّ من إخضاعه هو الآخر للقانون أي تقنين إستعمال العنف حتّى يسهل تحديد مسؤوليّة من يتجاوز إطار القانون في ممارسة العنف بإسم الدّولة، و هو ما تعرّضنا له سابقا. هيبة الدّولة تشمل أيضا عدّة جوانب أخرى كمنع أيّ جهة أخرى داخل المجتمع من ممارسة صلاحيّاتها مثل إصدار أحكام ذات صبغة قضائيّة كما يحدث في بعض المجتمعات ذات التّركيبة القبليّة، أو إصدار فتاوى دينيّة تخالف القانون و التّحريض على تطبيقها، أو تكوين ميليشيات مسلّحة تحمي مصالح فرديّة أو فئويّة…و كما ترى فهذه الهيبة هي من النّوع الضّروري و المرغوب فيه.

سؤال: سيتصاعد الجدال في الاشهر القادمة حول شكل النظام السياسي المطلوب في تونس: رئاسي، ام برلماني. لكن قبل الدخول في هذه التفاصيل هل يمكن تلخيص خاصيات الانظمة السياسية الرئيسية في الديمقراطيات عبر العالم؟



محمّد نجيب بن حمّودة: النّظامان اللّذان يسودان الدّول الدّيمقراطيّة اليوم هما النّظام البرلماني و النّظام الرّئاسي، مع أغلبيّة عدديّة واضحة للأوّل على الثّاني.كما توجد بعض الأنظمة القائمة على الأخذ و الخلط من و بين هذين النّظامين. لتبسيط الأمور و لكي يفهم أكثر عدد من التّونسيّين، وخاصّة منهم شباب الإنترنيت، خصائص و مزايا و عيوب كلّ واحد من هذه النّظم، سنقول بأنّ الأمر يتعلّق بنوعيّة و كيفيّة تنظيم العلاقة بين السّلطة التّنفيذيّة و السّلطة التّشريعيّة.أهمّ خاصّيّات النظام البرلماني هي أنّ الحكومة اللّتي بيدها السّلطة التّنفيذيّة الفعليّة لا بدّ لها من أن تكون حائزةً على ثقة البرلمان اللّذي بيده السّلطة التّشريعيّة، و لذلك فإنّ الحكومة تكون مسؤولة أمام البرلمان و عليها تقديم إستقالتها إن لم تعد تحظى بثقة الأغلبيّة داخله. و لضمان إستمراريّة الدّولة أثناء توتّر العلاقة بين الحكومة و البرلمان فإنّ السّلطة التّنفيذيّة تكون مُزدوجة بين الحكومة و رئيس الدّولة اللّذي لا ممارسة سياسيّة له سوى التّعيين الشّكلي لرئيس الحكومة و تشخيص إستمراريّة الدّولة و الوحدة الوطنيّة، و لذلك فهو غير مسؤول سياسيًّا، عكس رئيس الحكومة و وزرائها اللّذين يتولّون تحديد و تطبيق السّياسة العامّة للدّولة تحت رقابة البرلمان. و من هنا نلاحظ أنّ السّلطة و المسؤوليّة مقترنتان إلى درجة كبيرة في النّظام البرلماني، و من مظاهر ذلك مثلا أنّ القرارات اللّتي يمضيها الرّئيس بإسم الدّولة يؤشِّرُ عليها وجوبًا الوزير المعني بالموضوع لتوضيح مسؤوليّته و قابليّته للمساءلة و المحاسبة أمام البرلمان حول ذلك الموضوع.
بصورة عامّة العمل بالنّظام البرلماني يستوجب تعاونا وثيقا بين الحكومة و البرلمان إذ غالبًا ما يُختار الوزراء من بين أعضاء البرلمان و لهم بالتّالي إطّلاع على الشّؤون الدّاخليّة لهذا الأخير. كما أنّ للحكومة حقّ المبادرة التّشريعيّة (أي إقتراح مشاريع القوانين للمناقشة و التّصويت).و نظرا لمخاطر التّأزّم النّاتجة عن محاسبة الحكومة أو فقدانها لثقة البرلمان فإنّ رئيس الدّولة أو رئيس الحكومة يتمتّعان بحقّ حلّ البرلمان، و هو آليّة تعديل داخل النّظام البرلماني إلى جانب آليّة حجب الثّقة و إسقاط الحكومة اللّتي يتحكّم فيها البرلمان. هاتان الآليّتان تسمحان عند توتّر العلاقة بين السّلطتين إمّا ببعث حكومة جديدة تحوز على ثقة البرلمان أو الإحتكام بصورة إستثنائيّة للنّاخبين لإختيار برلمان جديد.
أمّا عن النّظام الرّئاسي فيتميّز بتفريق صَلبٍ بين السّلطتين التّنفيذيّة و التّشريعيّة. البرلمان هنا يحتكرُ المبادرة التّشريعيّة و له سيطرة مطلقة على المادّة التّشريعيّة ككلّ و الرّئيس الممثّل للسّلطة التّنفيذيّة لا يمكن إسقاطه عبر البرلمان نظرًا لشرعيّته الإنتخابيّة المباشرة (الكونغرس الأمريكي له هذه الصّلاحيّة لكنّها ذات طبيعة قضائيّة إستثنائيّة و ليست تشريعيّة) فأهمّ خاصّيّات النّظام الرّئاسي أنّ رئيس الدّولة يُنتخبُ إنتخابا حرًّا و عامًّا، مباشرًا أو غير مباشر و هو بهذا الإنتخاب يتمتّع بشرعيّة قويّة تبرّر صلاحيّاته التّنفيذيّة الواسعة، فهو في ذات الوقت رئيس للدّولة و رئيسٌ للحكومة، يعيّن و يقيل وزراءها و يشرفُ على عملهم، كما أنّهُ لا تُمكنُ محاسبته من قبل البرلمان، و لكنّه أيضا ليس بإمكانه حلّ البرلمان و لا يملكُ وسائل مراقبة أو تأثير على هذا الأخير عدى حقّ النّقض اللّذي يتيحُ لهُ رفض القوانين اللّتي لا تتماشى مع سياسته . لكن في المقابل، البرلمان له هو الآخر سيطرة مطلقة على العمليّة التّشريعيّة و لهُ أن يبادر و يسنّ ما يشاء من القوانين، كما أنّ لهُ سلطات واسعة للتّحقيق في عمل الأجهزة التّابعة للسّلطة التّنفيذيّة. في هذا النّظام السّلطتان تعتمدان على منطق توازن الرّعب، فحقّ النّقض الرّئاسي لا يمكن إستعماله في الواقع إلاّ إستثنائيًّا و إلاّ تعرّض الرّئيس لردّة فعل من البرلمان تمنعهُ من إستخدام القانون(عبر أعضاء حزبه داخل البرلمان حتّى و إن كانوا أقلّيّة) كآلة لسياسته، و هو ما ينتُجُ عنهُ ُمشاوراتٌ و مفاوضات دائمة بين السّلطتين.
إلى جانب هذين النّظامين الكبيرين هناك من الدّول من إختارت الخلط بينهما مثل فرنسا أو، وهنا سيتفاجئ الكثيرون، تونس ! فدستور 59 لم يؤسّس لنظام رئاسي مُطلق بل أخذ أيضًا عديد الخصائص من النّظام البرلماني كمسؤوليّة الحكومة أمام البرلمان أو إمكانيّة حلّ البرلمان، و هي خصائص و إن وردت في النّصّ فإنّها لم تجد طريقها إلى الممارسة بإعتبار سياسة الحزب الواحد و الإستبداد اللّتي عرفتها تونس منذ الإستقلال و حتّى الثّورة.

سؤال: ما هو النظام الأمثل في رأيك بالنسبة للوضع التونسي؟

محمّد نجيب بن حمّودة: يجبُ أن نشير إلى أنّ الأنظمة السّياسيّة اللّتي تعرّضنا لها سابقًا ليست بالقوالب الجاهزة اللّتي يجب إستنساخها بدون تغيير، فالأنظمة البرلمانيّة مثلا فيها العديد من النّماذج المختلفة و تختلف بين بعضها في الكثير من التّفاصيل. ما يجبُ أن ندركه هو أنّ نظام الحكم يجب أن يأخذ بعين الإعتبار المعطيات السّياسيّة و الإجتماعيّة و الثّقافيّة للمجتمع. في تونس ما بعد الثّورة أصبح هناك نفورٌ واضح لدى الشّعب من شخصنة السّلطة التّنفيذيّة اللّتي ينطوي عليها النّظام الرّئاسي، و هذا المنطلق سيدفعُ حتمًا المجلس التّأسيسي إلى هيكلة السّلطة التّنفيذيّة بشكل مخالف تماما لما كان عليه الوضع قبل الثّورة. طبعًا لا يمكنني التّكهّن بما سيتمخّض عنه عمل المجلس في هذا النّطاق، لكن هناك عدّة إمكانيّات منها إعتماد نظام برلماني تكون فيه السّلطة التّنفيذيّة بيد حكومة مكوّنة من طرف الأغلبيّة البرلمانيّة مع إسناد رئاسة الدّولة إلى شخصيّة مستقلّة عن البرلمان ينتخبها هذا الأخير على أساس حكمتها و أخلاقها، و هذا يعني التّخلّي عن صيغة الإنتخاب العامّ المباشر لرئيس الدّولة حتّى لا تكون له شرعيّة شعبيّة يستقوي بها على البرلمان، كما يعني أنّ سلطاته ستكون محدودة جدّا و شكليّة، لكنّهُ في نفس الوقت سيلعبُ دورًا توفيقيًّا و مُهدّئًا في حال نشوب أزمة في تكوّن الأغلبيّة البرلمانيّة أو في علاقة الحكومة بتلك الأغلبيّة، و من هنا شرط الإستقلاليّة و الحكمة في هذا المنصب. شخصيًّا ما يُقلقني أكثر الآن هو العدد الكبير للأحزاب السّياسيّة و غياب الرّؤية حول طريقة تنظّمها و تمويلها و قدرتها على التّعبئة و العمل السّياسي القائم على الأفكار و البرامج السّياسيّة العمليّة، طبعًا لا زلنا في مرحلة البدايات لكنّ و جود أحزاب قويّة و عقلانيّة غيرُ متصلّبة إيديولوجيًّا بإمكانها جمع أقلّيّة الأحزاب الصّغيرة لتُكوّن معها أغلبيّة حاكمة، هو أمرٌ ضروري لضمان نظام برلمانيّ ناجح يضمنُ قوّة الحكم و إستمراره…لأنّ ما نراهُ الآن هو أنّ هناك العديد من الأحزاب القائمة على قاعدة إيديولوجيّة (متطرّفة أحيانًا بالنّظر إلى التّركيبة الثّقافيّة للتّونسيّين) و تنقصها الخبرة بالشّأن العامّ و إدارته، و هو وضعٌ يخشى معه إذا ما تواصل و لم يستقم أن تكون لنا هيئةٌ تأسيسيّة ثمّ برلمان ضعيف تتقاسمه أقلّيّات ضعيفة متنافرة إيديولوجيّا و لا يمكنها التّفاهم فيما بينها للخروج بأغلبيّة مقرّرة و حاكمة متماسكة. لكلّ ذلك أرى أنّ الإعتناء بالشّأن الحزبي أمرٌ ضروري و مصيري يجب البدء فيه بصورة عاجلة، و هذه مسؤوليّة كلّ التّونسيّين، و خاصّة منهم شباب الثّورة، بالتّنظّم الحزبي و الجمعيّاتي و على الأنترنيت لبثّ روح الإهتمام بالشّأن العامّ في المجتمع و توسيع الحوار المبني على الأفكار و البرامج السّياسيّة العمليّة… كلّ ذلك سيساعدُ على أن تكون لنا ساحةٌ سياسيّة متطوّرة تليق بثورتنا و تسهّلُ العمل التّأسيسي و الحكومي.

سؤال: كيف تتصوّرون تنظيم السّلطة و ممارسة الحكم أثناء عمل المجلس التّأسيسي؟

محمد نجيب بن حمودة: هذا سؤالٌ جيّد. لنتذكّر ما قلناه عن الأنظمة السّياسيّة سابقًا. الحقيقة أنّ هناك من يضيفُ نظامًا آخر هو « نظام الجمعيّة »  و المقصود هنا هو الجمعيّة التّأسيسيّة، (le régime d’assemblée)على غرار ما وقع إبّان الثّورة الفرنسيّة أو ما عرفته تونس المستقلّة مع تجربة المجلس الوطني التّأسيسي في النّصف الثّاني من خمسينيّات القرن الماضي. فلئن كانت المهمّة الأولى للمجلس التّأسيسي هي صياغة دستورٍ جديد للبلاد ينظّم السّلط للمرحلة اللّتي تلي المصادقة عليه عبر إستفتاءٍ شعبي و دخوله حيّز التّنفيذ الفعلي، فإنّ هذه المهمّة ستستغرقُ عدّة أشهر و ربّما سنتين، و في غضون ذلك لا بُدّ من حكومة و سلطة تشريعيّة تتولّى تسيير شؤون البلاد، و بما أنّ المجلس التّأسيسي هو من يملك الشّرعيّة الإنتخابيّة المباشرة فإنّ المُتوقّع أن يتولّى بنفسه تنظيم السّلطتين التّنفيذيّة و التّشريعيّة في مرحلة إنعقاده و هو ما يعني أنّه قد يجمع بين ثلاث سلط هي التّأسيسيّة و التّنفيذيّة و التّشريعيّة. هذا الحلّ هو اللّذي إعتمده المجلس التّأسيسي الأوّل بعد الإستقلال و لكنّ المعطيات السّياسيّة وقتها مختلفة تماما عن المعطيات الحاليّة حيث كان الحزب الحرّ الدّستوري بقيادة بورقيبة مسيطرًا على الحكومة السّابقة لتكوّن المجلس ثمّ على المجلس نفسه وهو ما أدّى إلى سهولة في حكم البلاد و لكن أيضًا، و هذا هو الأخطر، إلى تأثّر العمل التّأسيسي بتجربة الحكم الإنتقالي تلك و ما عرفته من سيطرة بورقيبة فكريّا و شخصيًّا على جميع أجهزة الدّولة و الحزب المهيمن. علينا أن نعيَ أنّ ما عشناه منذ ذلك الوقت له جذورٌ نبتت في تلك الحقبة التّأسيسيّة الأولى و يجب علينا العمل على تفادي نفس الخطأ بمزج العمل التّأسيسي المستوجب للحكمة و المسؤوليّة عن مستقبل الأجيال القادمة مع العمل الحكومي الخاضع للحسابات السّياسيّة الظّرفيّة. لكلّ ذلك سيكون من المستحسن أن تتواصل تجربة الحكومة الإنتقاليّة المتكوّنة من التّكنوقراط و بعض السّياسيّين و تقع المصادقة عليها من طرف المجلس التّأسيسي ثمّ تعمل تحت رقابته. كما يمكن أن ينتخب المجلس رئيسا له يتولّى في نفس الوقت رئاسة الجمهوريّة. المهمّ في هذه المرحلة أن تكون الطّبقة السّياسيّة الجديدة واعية بضرورة تحييد العمل التّأسيسي عن الممارسة الوقتيّة للسّلطة.