
لكن السبب المباشر في تأخر هذا القرار كان في محاولة منى لإصلاح مسار هذا الحزب الذي ترعرعت فيه و ناضلت في صفوفه في زمن كان العمل السياسي حكرا على الحزب الواحد فكنا من طليعة من تصدى للاستبداد و دافع عن الحريات و كنا في جميع الحالات منحازين للفئات الشعبية المضطهدة و المهمشة و المفقرة .
أعجز عن توصيف حالة الصراع الذي عشته في داخلي قبل أن أخط هذه الأسطر و بعد أن قرر جل رفاقي الذين عشنا مع بعضنا جنبا لجنب، تجربة لم يندم أي منا على خوضها في وجه الدكتاتورية، إلا أن مواصلة الأستاذ نجيب في دفاعه عن التجمعيين و تجاهله للفساد السياسي الذي شاركت فيه هذه الثلة و الذي حسب رأيي أبشع من الفساد المالي و دفاعه المستميت عن محمد الغنوشي حتى بعد استقالته سوى كان في إذاعة موزاييك يوم استقالة هذا الأخير أو في بقية وسائل الإعلام كما شاهد الجميع دليل على أن كل محاولات الاصلاح و النقد الذي توجه بها العديد من المناضلين داخل الحزب للأستاذ لم يكن لها أي تأثير على تصريحاته و مردوده الإعلامي الذي شهد تغييرا ملحوظا مما جعل الحزب يخسر كل رفقائه السياسيين الذين تعامل معهم لفترة ليست بالهينة.
ففي حين كنت مقتنعا أن أغلبية الإصلاحات التي شهدتها البلاد في الفترة الأخيرة لم تنجزها الحكومة بل كانت نتيجة الاحتجاجات المتواصلة و الاعتصام و التحركات الميدانية التي شهدتها الشوارع التونسية كتعديل التشكيلة الأولى للحكومة و تغيير الولاة و طرد الغنوشي...حاولت أن يكون للحزب موقع داخل هذا الحراك إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل خاصة و أن كل قيادات الحزب كانت تنجر وراء مبادرات الأستاذ الشابي و لم تعر القيادات الشبابية و حتى الوسطى أي اهتمام.
ففي حين كان الكل ينتظر بعض الإجراءات السريعة التي تحد من هيمنة وزارة الداخلية على سبيل المثال كتعبير عن حسن نية الحكومة كحل البوليس السياسي أو توجيه تهم تستحق الذكر في حق الرئيس المخلوع كالقتل عمدا... نسمع على لسان الأستاذ نجيب في الندوة الصحفية التي أقامها ليعلن فيها استقالته من الحكومة أن بعض القرارات التي صدرت عن الحكومة في الفترة السابقة لم تكن ناتجة عن مشاورات بل عبر حتى في وقت سابق عن عدم علمه بتشكيلة الولاة بعد أن شهد لهم بالكفاءة في تصريح تلفزي ليلة قبل الإعلان عن الأسماء و هنا تطرح العديد من التساؤلات التي لم أجد لها أي تفسير. ما سبب بقاء حزب مناضل متمثلا في حكومة لا ديمقراطية و لم تمثل تطلعات الشعب؟ لماذا لم يستقل الأستاذ بعد اعتداء القصبة رغم علمه بشدة و جرم البوليس التونسي في تعامله مع المواطن أو على الأقل تعليق عمله بالحكومة إلى حين تفكيك الجهاز الذي قام بهذه المهزلة؟ لماذا كل هذا التجاهل الذي جوبه به الشباب داخل الحزب من طرف قيادات، الشباب الذي كان محركها الأول و ممثلها الصلب في الساحات؟
على كل حال أجهدت نفسي كثيرا في محاولة منى لتبرير جملة من الأخطاء التي ذكرت جزءا منها و لا يتسع المجال للتوسع أكثر فالأيام القادمة ربما تأتي بالجديد الذي سيوضح لي بعض الخفايا إلا أن كل هذا جعلني شيئا فشيئا أراجع كل مفاهيمي للديمقراطية المتبعة داخل الحزب لذلك فلا أجد مبررا لبقائي فيه بعد أن اتضح لي أنه لا صوت لي بداخله و لم يعد يمثلني لا سياسيا و لا فكريا. اتخذت هذا القرار و أنا أستمع للندوة الصحافية الأخيرة للأستاذ نجيب التي أطلقت بالنسبة لي رصاصة الرحمة لتريحني من عناء التفكير الذي شغلني لفترة تجاوزت الشهر و النصف.
في الختام اعتذر لكل رفاقي الذين خيروا البقاء في الحزب لمحاولة اصلاح ما يمكن اصلاحه لأن ما ربطنا بهذا الحزب يتجاوز السياسي ليصل للرابط المعنوي الذي شكل عائقا في عديد المرات أمام استقالتي، كما أحيي بإكبار وصدق، كافة مناضلي الحزب الديمقراطي التقدّمي الذين أطروني ووجهوني حال انضمامي لصفوف المناضلين داخله. و أقول لهم أن افتراقنا في هذه الفترة لن يكون نهاية مسيراتنا النضالية المشتركة فلربما تجمعنا محطات نضالية أخرى نكون فيها جنبا لجنب كما عهدنا.
أخيرا أعلن عبر هذه الاستقالة انضمامي تقنيا للحراك الشعبي بعد أن كنت جسدا و عاطفتا وقلبا معه طوال الفترة الأخيرة و شاركت معه في اعتصام القصبة الأول و الثاني إيمانا مني بأحقية الشعب الذي أسقط الطاغية في تقرير مصيره.
المجد للشهداء الأبرار
عاشت تونس حرة مستقلة