خفايا البوليس السياسي

لقد وعدت مرارا بتقديم ما لدي من معلومات حول ما حدث في كواليس الثورة واليوم أوفي بوعدي وأقدم لكم ما لدي عسى أن أقدم إضافة إيمانا مني بأن بعض الحقائق عندي وبعضها عند غيريو أن كثيرين من التونسيين يملكون جزءا من الحقيقة لو طرحناها جميعا ثم أعدنا تجميعها سنصل للحقيقة كاملة بإذن الله
لا ادعي أنني أملك الحقيقة كاملة بل عندي مجموعة من المعلومات وبعض التحليلات وبعض التكهنات فإن تبين أن بعض تكهناتي خاطئة فأرجو التصويب والتدليل على خطئها كي نستطيع بلوغ تصور أفضل لما وقع
أولا سأبدأ بتركيبة الأجهزة الأمنية في تونس كثيرون في جهاز الأمن يعرفونها لكن أغلبهم لا يعرف الكثير عنها بل غالبيتهم لا يعرفون تفصيلها وبالتحديد أجهزة ما يطلق عليه بالبوليس السياسي وطبعا لا تسألوني عن مصادري فمن يريد أن يبحث ويعرف كيف يبحث سيعرف الكثير أكثر مما يتصور ومن على علم بأجهزة البوليس يعرف صحة ما أقول وإن كنت لست دقيقا مائة بالمائة.
أولا نبدأ بالأمن الرئاسي البعيد عن العيون فهو مقسم إلى قسمين
قسم علني قوائم أعوانه موجودة في مكاتب الرئاسة ومرتباتهم يقع تنزيلها في حساباتهم البنكية بعنوان مرتبات أعوان مكتب الرئاسة وهم  في أغلب التقديرات 12 ألف عون. يخضع علنيا لإشراف علي السرياطي وحسب الهرمية في الرتبة.
قسم سري استخبارات الرئاسة ويخضع مباشرة لرئيس الجمهورية وفي السنوات الأخيرة لسلطة حرمه ليلى الطرابلسي بشكل أكبر وقع اختيارهم بدقة مع مراعاة عدة ظروف وضرورات ومرتباتهم يتم تنزيلها بشكل مستقل وبصفات مختلفة (شركات ومؤسسات خاصة.. بلا صفة..) ويشرف عليهم تدريبا وتوجيها مجموعة من الخبراء الأمنيين الذين تلقوا تكوينا استخباراتيا عاليا في الخارج (فرنسا خاصة)  يرأسهم علي السرياطي في العلن. ويبلغ عدد أعوانه من ستة آلاف إلى تسعة آلاف عون ويصعب تأكيد ذلك لما يحاط به من سرية. وهؤلاء منتشرون بالزى المدني في كامل أنحاء العاصمة وخصوصا حول شارع الحبيب بورقيبة وقصر الرئاسة.
وبالنسبة لوزارة الداخلية يعلم الجميع أن إدارة المصالح المختصة تضم أغلب هياكل  البوليس السياسي لكن ما لا يعلمونه أن البوليس السياسي اعقد من ذلك بكثير وهو لا يعتمد على الهياكل الرسمية قدر ما يعتمد على الهياكل الغير رسمية. بالنسبة للهياكل الرسمية...


أهم أجهزة البوليس السياسي هو

جهاز الاستعلامات حيث تتكدس جميع المعلومات الاستخبارتية التي يتحصل عليها البوليس السياسي ويتم إرساله أولا بأول إلى القسم الثاني من أمن الرئاسة. كل ضباطه مدنيون ويضم خبراء في جميع المجالات التي قد يحاجون إليها وضباط هذا الجهاز على درجة عالية من التكوين في اختصاصاتهم حين يوزعون حسب الاختصاصات (إسلاميون, شيوعيون, قوميون. سلفيون جهاديون, صوفية, حزب التحرير, مسيحية... الخ)  في الغالب ضباطه وقياداته لهم رأي مسموع لدى القيادة السياسية وهم من يقررون الاجراءات التي يرونها ضرورية (قمعية, عقابية, تلفيق تهم, ... الخ) ويرفعون تقارير للقيادة السياسية وطبعا قبل أن تصل تمر بمرشحات عديدة لمسؤولين كبار وهي توافق أو ترفض قراراتهم. وأحيانا تأتيهم القرارات من أعلى. أعداد ضباط هذا الجهاز لا يتجاوزون بأي حال الألف (أغلب الظن أنهم بضع مئات) وهناك ضباط مهمتهم التنسيق بينهم وبين باقي الأجهزة
الجهاز الثاني هو مصلحة مراقبة الأنترنات طبعا لها اسم آخر في المصالح المختصة لكني هنا أموه فقط وفيه أيضا بضع مئات من التقنيين والخبراء يقومون بمراقبة الاتصال بالشبكة عن طريق برنامج رقابة ضخم كلنا نعرفه وهؤلاء يقدمون تقارير يومية تقريبا حول الناشطين على الأنترنات ويقومون  بالقطع المقنن وبالرقابة الصارمة على الاتصال.
الثالث هو المصلحة الفنية في بعض أقسامها ولن اذكرها كلها سأكتفي بإدارة الاتصالات التي تراقب الهواتف وإدارة أخرى تعنى بتوفير الدعم التقني لكافة أجهزة الوزارة خصوصا فيما يخص التنصت والتصوير وتركيب الأدلة لتوريط الناشطين وفتح المكاتب بدون مفاتيح  الخ..
الرابع الحدود والأجانب وهي تعنى بمراقبة التونسيين بالخارج وبمنع أو منح الجوازات حسب الملفات الأمنية ومتابعة الحركة على الحدود وعلى الموانئ الجوية والبحرية ودورها بالاساس رقابي لان العمل الميداني عادة يقوم به إما ضباط الاستعلامات أو جهاز آخر سآتي على ذكره
الخامسة فرقة الإرشاد وتنتشر في كامل أنحاء الجمهورية وهم موظفون رسميون مهمتهم جمع المعلومات بجميع أصنافها وخصوصا الشخصية وترفع تقاريرها للاستعلامات.
السادس هو أعتى أجهزة البوليس السياسي وهم يضم عشرات الآلاف وينتشر في كامل أنحاء الجمهورية ليس مرسما في السجلات الرسمية لوزارة الداخلية ومرتباتهم تصرف في شكل منح وتجدهم في كل مكان تقريبا في الأكشاك على ناصية الطرقات بين المتسولين بين أعضاء التجمع وبين أعضاء جميع  الأحزاب الأخرى بين سواق التاكسي في المدارس والمعاهد والجامعات والوزارات والإدارات والشركات الكبرى ومن ضمنهم أيضا المجرمون الذين وافقوا على التعاون مع البوليس وكثير من المنحرفين الخ.. هؤلاء هم قواعد البوليس السياسي وهؤلاء الذين لم يجدهم السيد فرحات الراجحي في سجلات الداخلية حيث وجد قرابة خمسين ألف عون أمن فقط وليس قرابة المئة وخمسون ألف كما يعتقد. بالرغم من أن حجم المرتبات المرصودة لأعوان الداخلية تغطي مئة وخمسون ألف وليس فقط خمسين ألف. هؤلاء الذي رآى السيد فرحات الراجحي بعضهم في بهو وزارة الداخلية وحاولوا قتله حين تجرأ ودخل قبو الوزارة ذلك المكان المقدس لهم والذي لا تطأه أقدام ضباط كبار في الوزارة بسهولة. هؤلاء هو عملاء البوليس السياسي وهم أهم مصدر للمعلومة لديه. ومنهم من يتعامل مع الاستعلامات ومنهم يتعامل مع فرق الأبحاث ومنهم من يتعامل مع فرقة الإرشاد.

وهؤلاء بحكم ارتباطهم بالأجهزة الأمنية وبحكم طبيعتهم المهنية التي تفتح لهم الكثير من الأبواب وتوفر لهم الكثير من الضمانات يقود بعضهم  أغلب عصابات النهب والسرقة والنشل في تونس فهم لا يكتفون بالمنح الزهيدة نسبيا (من مائتين إلى ثلاث مائة وخمسين دينارا) وينسقون مع الكثير من رؤساء المراكز في جميع أنحاء الجمهورية وخاصة في العاصمة. ومن المؤكد أنه بعد القضاء على شوكتهم ستتراجع الجريمة إلى حدود النصف تقريبا فهم يسيطرون على نصف الجريمة في تونس إن لم يكن أكثر.
هؤلاء والجهاز الغير رسمي لأمن الرئاسة وجدوا أنفسهم فجأة بعد الثورة وخصوصا بعد تدخل القاضي السيد فرحات الراجحي بدون دخل. فقدوا فجأة مورد رزقهم وقوائم أسمائهم وملفاتهم التي تم إتلافها في قبو الداخلية ويحتفظون بنسخ منها في عدة أماكن بعضها لجهات أجنبية ولكن يمكن الوصول إليها بسهولة لو توفر الجهاز الكفيل بذلك فأطراف الخيوط موجودة أمام أعيننا.
أما وحدات التدخل أو فرقة مكافحة الشغب فهؤلاء مهمتهم السياسية فقط مساعدة أجهزة البوليس السياسي في قمع المظاهرات ولهم مهام أخرى كثيرة معروفة.
ولقد تدربت أجهزة البوليس السياسي على خطة أمنية يطبقونها في الحالات الطارئة وهي خطة تم اعتمادها في كامل الدول العربية وكان لتونس قدم السبق فيها خلال الأحداث التي شهدتها في سنوات 1986 -1987 -1991 فتم تعميمها في الدول العربية في إطار ما يسمى بالأمانة العامة لوزراء الداخلية العرب الذي يقع مقره في ضفاف البحيرة ويعقد اجتماعاته كل ستة أشهر. والخطة تقتضي نشر الرعب والفوضى وترويع الناس وتهديدهم في أرواحهم وممتلكاتهم وافتعال انفلات أمني وما إطلاق سراح المساجين إلا جزء من الخطة لتبرير الانفلات الأمني الذي يقفون هم وراءه. وما خروج المئات من سيارات التاكسي والتأجير والإسعاف وسيارات الشرطة  محملة بالرجال والسلاح وانسحاب جميع رجال الأمن من الميدان في تواطؤ واضح إلا تنفيذا لتلك الخطة الأمنية والتي تطبق تلقائيا وفي العادة لا تحتاج لأمر مباشر من بن علي ولا من السرياطي لبدء تطبيقها وإن كان علي السرياطي تابع تطوراتها وأشرف عليها.
ألم تتساءلوا لماذا بعد أن أعلن الجيش عن القبض عن أكثر من ثلاث آلاف مسلح أمسكت بهم لجان الحماية الشعبية المكونة من شباب تونس العظام لماذا تم إطلاق سراحهم دون أي تحقيق.؟؟؟
ألم تتساءلوا لماذا خرج أحمد فريعة داعيا الباقين منهم إلى تسليم سلاحهم لأقرب ثكنة أو منطقة شرطة وعفا الله عما سلف
ألم تتساءلوا لم لم يحالوا للمحاكمة وهم المسؤولون عن مقتل المئات من أبناء تونس.
لأنهم كانوا يطبقون التعليمات. لأنهم كانوا يقومون بوظيفتهم ويتفانون في ذلك. لأنهم لم يخالفوا القانون الذي يحميهم في إطار وزارة لها السيادة والحصانة من التتبع القضائي. ولأن الخطط الأمنية التي يطبقونها تحظى بالمصادقة من طرف بن علي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. في هذه الدولة الإجرامية والنظام القاتل الوحشي.
 نعود الآن للإطار السياسي ولنا عودة لهذه الأجهزة الأمنية التي عادت من جديد لتذبح التونسيين لكن لدواعي أخرى سنأتي عليها.
 مع بداية تصاعد الاحتجاجات في نهاية شهر ديسمبر ومع سقوط القتلى برصاص البوليس أرسل رئيس فرنسا لبن علي يطالبه لاتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء الاحتجاجات في أقرب وقت لأن الأمر بدأ يثير القلق. ولقد قامت الأجهزة الأمنية بتطبيق الخطة الكلاسيكية والتي طبقتها مع حركة النهضة سابقا والقاضية بنشر عصابات الأمن لتنهب وتحرق الممتلكات وتروع الناس. ثم خرج كما خرج في بداية التسعينات ليسرد نفس المعزوفة عن إرهابيين وملثمين الخ نفس الاسطوانة المشروخة والتي كررها من بعده مبارك والقذافي في بلاهة وغباء. فلما فشلت تلك الخطة قام بن علي بتكليف علي السرياطي وخبرائه الأمنيين وجهازه باتخاذ الإجراءات لوقف الاحتجاجات بأي ثمن فنشر هذا الأخير قناصته على أسطح القصرين وسيدي بوزيد ليحصد العشرات ضانا أنه بذلك يستطيع بث الرعب في قلوب الناس فيلزمون بيوتهم ويستتب الأمن. لكن الشباب هناك زاده رصاص القناصة غضبا وشجاعة وتحديا وحطم جميع القواعد الأمنية في صمود مفاجئ للجميع. وتصاعدت الأحداث في سرعة كبيرة وانتشرت الاضطرابات من ولايتي سيدي بوزيد والقصرين إلى الكاف وسليانة  وثم جندوبة وقفصة ثم عمت أغلب مناطق الجمهورية في تسارع أربك السلطة ودعت الحكومة الفرنسية تشعر بقلق شديد وتوفد مبعوثا خاصا ليتابع الأوضاع عن كثب ويتخذ التدابير اللازمة في حال تأزمت الأمور بشكل لا رجعة فيه. ومنحت نظام بن علي فرصته كاملة لاحتواء الوضع. ولكن لأن شباب تونس ظهر بصورة مختلفة تماما عن تلك التي صورها الخبراء المهتمون في الشأن الداخلي لبلادنا والخبراء الأمنيون أيضا فإن النظام ومن يقفون خلفه عجزوا تماما عن التعامل مع المستجدات. وحين أمر بن علي رشيد عمار بإطلاق النار على المحتجين في إعلان حرب صريحة على الشعب تماما كما فعل القذافي الذي لا يملك جهازا بوليسيا مثل بن علي فاعتمد مباشرة على الجيش والمرتزقة. عند إصدار هذا الأمر  من طرف بن علي كان قد حسم تماما قرار التخلي عنه من طرف أمريكا وفرنسا والذي كان يدرس من فترة إذ أن لجوءه لذلك الخيار يعني فشله في احتواء الأزمة والسيطرة على البلاد. ونظرا لعلمهم بضعف الجيش وعدم قدرته على إدارة دفة الأحداث فقد صدر الأمر لرشيد بن عمار بعدم الاستجابة لأوامر بن علي والقدوم للسفارة الأمريكية لتأمينه والتشاور في فترة ما بعد بن علي.  كان قدوم المبعوث الفرنسي الخاص لتونس يوم سبعة أو ستة جانفي  اتصل منذ ذلك التاريخ بعدة أطراف سياسية التي عرفت بأنها صديقة فرنسا أهمها الحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل من أجل العمل والحريات وحتى التجديد  والنهضة وبعض التيارات الغير معترف بها وجراد. وكانت هناك فكرة تكوين حكومة انقاذ وطني وقد قام نجيب الشابي بالدعوة لها يوم الأربعاء السابق لرحيل بن علي بعد مشاورات مع المبعوث لكنها لم تلاقي نجاحا لفشله في تكوينها ولرفض الفكرة من طرف رجال النظام القائم. وقد اتصل المبعوث الفرنسي بالسفارة الأمريكية وطمأنه بخصوص مصالح أمريكا بالمنطقة وطلب منه عدم التدخل بصفة مباشرة في الأوضاع. اللافت للنظر خلال تلك الأحداث أن بن علي كان مصرا لآخر لحظة وربما زوجته هي التي كانت مصرة أنه قادر على السيطرة على الوضع وأنه لم يلعب جميع أوراقه. لهذا كانت أغلب اتصالات المبعوث الفرنسي في معزل عنه ويوم الخميس تقرر كل شيء لأنهم توقعوا تماما ما سيحدث يوم الجمعة في قراءة جديدة لتطورات الأوضاع مع الدعوة النقابية للإضراب العام ومدى التجاوب الذي لقيته الدعوة للتظاهر يوم الجمعة في الفايس بوك وجس نبض الشارع التونسي. فكان الكل يعلم حقيقة الوضع منذ يوم الأحد السابق لرحيل بن علي إلا المعني بالأمر. ويوم الجمعة صباحا على الساعة التاسعة صباحا تقريبا ذهب رشيد بن عمار من السفارة الأمريكية رفقة السفير الأمريكي لقصر الرئاسة  ويقال أنه كان بالحمامات لكن الأرجح أنه كان بقرطاج. وطالبا بن علي بالرحيل في هدوء وأمام رفضه وخاصة رفض ليلى لهذا المطلب قالا له أن الخروج مؤقت حتى تهدأ الأوضاع وبعدها لو أمكن أن يعود فسيعود. فاشترط عليهم حماية عائلته الموسعة  فتعهد له رشيد عمار بذلك وتم الأمر وقامت طائرة عسكرية بنقل بن علي وزوجته وبعض المقربين إلى مالطا حيث تقبع طائرته الخاصة ومع رفض مالطا دخوله لأراضيها أضطر للرحيل لباريس لأنه سبق لساركوزي أن دعاه لها في حال تطلب الأمر ذلك. لكن وفي أجواء فرنسا بقي معلقا لأكثر من ساعتين قبل أن يعلن ساركوزي اثر اجتماع ضيق رفضه استقبال بن علي لعدم قدرته على تحمل استتباعات ذلك الأمر فرحل لإيطاليا مستنجدا ببرلسكوني صديقه الحميم لكن هذا الأخير الذي كان غارقا في مشاكله القانونية والأخلاقية رفض مباشرة استقباله وحتى أن يرد عليه وفي حيرة كبيرة دعاه الإسرائيليون للقدوم إلى شرم الشيخ تمهيدا لاستقباله في إسرائيل لكن لصعوبة الأمر بالنسبة لرئيس عربي فار يلحقه العار وجرائمه المتنوعة لم يكن يستطيع إضافة الالتجاء لإسرائيل  لكل ذلك وبعد أربع ساعات من الانتظار والقلق والتوتر والاتصالات المكثفة خصوصا مع الأمريكان بعد أن خذله الفرنسيون وجد أخيرا مستقرا في السعودية حيث استطاع أن يستقر إل حين.
وبالنسبة لخطاب نجيب الشابي ليلة 13 جانفي الذي تزلف فيه بن علي كان خارجا عن السياق لأنه يعلم أن بن علي مصر على البقاء وأنه لم يستجب لمطالب المبعوث الفرنسي وقد غاب عنه وربما حتى عن الغنوشي أن السفير الأمريكي قد قرر ليلتها أن يذهب مع رشيد عمار للقصر لإخراج بن علي. في حركة اعترضت حتى المشاورات التي كانت يقودها المبعوث الفرنسي.
ثم خرج لنا الغنوشي ليلقي على مشاهدنا تلك المسرحية الساخرة على شاشة التلفزيون في جو من الاضطراب العام وحضر تجول والآلاف من أتباع النظام القديم يستعدون "لقلب الفيستة" وارتداء لباس البطولة.
لقد كلف الغنوشي الذي كان يشارك في المحاورات منذ البداية وأبدى تجاوبا مع المبعوث الفرنسي على خلاف بن علي الذي كان مصرا على قدرته على السيطرة على الأوضاع وأنه لم يلعب كل أوراقه. كلف برئاسة الجمهورية لتحقيق استمرارية النظام وضمان المحافظة على المصالح العامة للمنتفعين المهمين السابقين وطبعا أهمهم فرنسا. ولم يضعوا في حسبانهم المسألة الدستورية المشهورة لكنهم تجاوزوها ومارس الغنوشي جميع صلاحيات رئيس الجمهورية بالرغم من أن النظام في تونس رئاسي وبالرغم من أنه دافع باستماتة عن النظام الرئاسي.
لقد كان الفرنسيون يميلون أكثر لنجيب الشابي باعتباره البديل الأكثر حظوظا على جميع الأصعدة وقتها لخلافة بن علي وخير ضامن لمصالح فرنسا لكن قوى النظام السابق كانت سترفضه بشدة ولن ينجح في تحقيق الانتقال الهادئ للسلطة فاضطروا للاعتماد على الغنوشي في هذه المرحلة على أن يتسلم نجيب الشابي مقاليد الأمور فيما بعد بناءا على شرعية انتخابية يكون فيها الأوفر حظا والوحيد المؤهل للنجاح خصوصا بعد التطمينات التي تلقوها من راشد الغنوشي بحصوله على دعم النهضة. وكونت الحكومة الأولى في ظروف صعبة وجو من عدم التعاون من المعارضة وحتى من بعض أصدقاء فرنسا لأنهم أحسوا أنهم مهمشون. وكانت الحكومة الأولى ضعيفة لا تستجيب لمتطلبات الوضع خصوصا أن الغنوشي دفع نحو الحفاظ على بقايا النظام القديم قويا لأطول مدة ممكنة حتى يتسنى للمسؤولين المورطين أن يقومو بمحو كل آثار تورطهم وفعلا استطاع الغنوشي الصمود بتلك الحكومة أياما طويلة لكنها لم تكن كافية لحذف تاريخ اسود طويل وجبل من الوثائق التي تدين المسؤولين السابقين.
وفي إطار إتلاف الأرشيفات لابد أن نمر على أخطر أرشيف على الإطلاق والأكثر ضخامة والأكبر تأثيرا في مجريات الأحداث. هو طبعا أرشيف البوليس السياسي في وزارة الداخلية. هذا المكان الذي تتجمع فيه ملايين الوثائق والتقارير والصور الخ التي جمعها البوليس السياسي من فترة بداية الاستقلال حتى الآن. وتنقسم هذه الوثائق حسب الأهمية لكنها كلها تقريبا موجودة في قبو وزارة الداخلية في غرف مصفحة ومؤمنة جدا. ومباشرة بعد سقوط بن علي تجمعت مجموعة من الضباط الكبار برفقة خبراء أمنيين أجانب في قبو الوزارة ليقوموا بالإشراف على عملية نسخ هذا الأرشيف ونقل كل نسخة لجهة. بعضها لجهات أجنبية وبعضها تم إخفاؤه بعناية في مكان ما لا يعرف به إلا هم. وتم إتلاف الباقي. طبعا هم بدؤوا بالأهم ثم المهم وهذا تطلب منهم وقتا طويلا لكثافة الوثائق وكثرتها. حتى أن السيد فرحات الراجحي حين همس في أذنه بما يحصل في القبو ونزل ليرى كانوا لازالوا لم يستكملوا عملهم مما أشعرهم بحنق شديد عليه وهددوه خصوصا وقد كشف وجود خبراء أمنيين أجانب يشرفون على العملية. وكان يجب إخفاء الأمر بأي شكل لكن قوة شخصية الوزير الجديد وصلابته جعلته يصدع بجزء كبير من الحقيقة. لكنه للأسف لا يستطيع إكمالها بل وحتى المحافظة عليها حتى الآن لما تعرض له من تهديدات جدية أكد  له الغنوشي شخصيا مدى جديتها. وبقي المسؤولون الأمنيون يعملون في صمت في قبوهم لبضع أيام أخرى أكملوا فيها مهمتهم بالرغم من قيام الوزير بعزل أغلبهم. بمساعدة الغنوشي الذي يعتبر أن القوة الأمنية تعتبر الطرف الأكثر تهديدا لنجاح عمليته السياسية لعدم خضوعها له. وكان يريد حقيقة ترويضها. وليس القضاء عليها.
 وكان الرفض الشعبي الكبير لحكومة الغنوشي الأولى التجمعية أثر كبير في تراجع ثقته بإمكانية المحافظة على النظام السابق وعلى مصالح المتنفذين فيه. فغير الحكومة في محاولة لتهدئة الرافضين ومثل اعتصام القصبة الأول مشكلة كبيرة للغنوشي لم يجد سبيلا للتخلص منه سوى إعطائه الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية للتعامل معه. وطبعا أجهزتنا الأمنية لا تتقن غير القمع والقتل فكانت ردة الفعل عكسية جدا وكانت فضيحة تملص منها الغنوشي في صمت وتحملتها مجموعة من المسؤولين الامنيين الذين تمت إقالتهم.
ثم كان الاعتصام الثاني الأثقل وطأة والأشد تصعيدا والأكثر تنظيما وخصوصا أنه قد تكون المجلس الوطني لحماية الثورة الذي تبنى مواقف المعتصمين ومنحهم امتدادا سياسيا عميقا. وقد منح السفير الفرنسي الذي عوض المبعوث الخاص والقادم من العراق خصيصا لضمان مصالح فرنسا في تونس الغنوشي فرصة كبيرة وأملا أكبر في النجاح في احتواء الوضع رفقة مجموعته التي تحوي أيضا نجيب الشابي الرجل الذي كان الأوفر حظا في الوصول للسلطة. لكن الغنوشي لم يستطع خداع الناس أكثر رغم محاولته الحديث عن الأغلبية الصامتة والتقليل من أهمية الاعتصام اعتمادا على وسائل الإعلام التي يسيطر عليها خاصة وأنه أقنع مراسل الجزيرة في تونس أن يلزم الحياد. فكانت مظاهرات الجمعة  26 فيفري الحاشدة والتي قارب عدد المشاركين فيها النصف مليون تجمع منهم عند الزوال في وقت واحد قرابة الثلاث مئة ألف مع مظاهرات حاشدة في أغلب المدن الكبرى للجمهورية وانطلاق اعتصام القصبة في صفاقس. كانت المسمار الأخير في نعش الغنوشي وحكومته فبالرغم من إصراره على البقاء والتركيز على الانجازات التي حققها للثورة وساوم بها طويلا وبالرغم من تهوينه من شأن تجمع القصبة ونشره في وسائل الإعلام أرقاما أقل بكثير من الواقع. إلا أنه وفي نظر الخارج  تأكد فشله الذريع في الخروج بتونس من الممر الضيق الذي حشرت فيه. وقد دعت أمريكا في ردة فعل طبيعية رشيد عمار لسفارتها حيث قضى يوم الجمعة والسبت هناك لتباحث التطورات الأخيرة والخطيرة في نفس الوقت الذي قام فيه الغنوشي مرة ثانية بإعطاء الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية لقمع المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة. ذلك الضوء الذي ينتظره مسؤولوا الأجهزة الأمنية بفارغ الصبر لإعادة الخوف والرعب للشباب من وزارة الداخلية وللبوليس بعد أن أصبحت هيبة الجهاز كله في مهب الريح. فكانت الجريمة الثالثة لهذا الجهاز الإجرامي في حق الشعب التونسي وشبابه بعد الثورة. ثم انتقل رشيد عمار مباشرة من سفارة أمريكا لقصر الرئاسة حاملا معه تصورا كاملا للوضع بعد الغنوشي فلقد أفرزت المشاورات مع الأمريكيين ثلاث قرارات أساسية
1-      سحب الثقة تماما من الغنوشي وحكومته وتعويضه بالباجي قايد السبسي وكان مقترحا من ضمن خيارين.
2-      الاستجابة لأغلب مطالب المعتصمين بعد أن تبين أنها مطالب شعبية
3-      التوجه جديا نحو مجلس تأسيسي ونظام برلماني وبدء الحوار الجدي مع حركة النهضة بصفتها البديل السياسي الأوفر حظوظا في الساحة

فخرج الغنوشي صاغرا وأراد في خروجه أن يؤلب التونسيين على بعض في فتنة ينتقم بها ممن تسببوا في إقصائه فحرض أذيال التجمع الذي حرص طويلا على المحافظة على مكاسبه وتعطيل حله على التظاهر وعلى التخريب أيضا. فخرجوا في محاولات يائسة أظهرت حجمهم الحقيقي وكشفت عن وجوههم المتربصة في تجمع القبة.  كما خرج معه أحمد نجيب الشابي وقد مني بهزيمة نكراء قضت على كل أحلامه بالمجد والسلطة وقرطاج. فكان تفاعله مع الحدث متشنجا جدا عنيفا ارتكب خلاله مجموعة من الأخطاء قضت على البقية الباقية من حظوظه خصوصا بعد تهجمه على حركة النهضة رغم أنها كانت تطرح دعمه بجدية لآخر لحظة. لعلمه أنها أصبحت تمثل البديل عن حزبه عند أصحاب القرار.

نأتي الآن للباجي قايد السبسي. هو رجل مشبع بالقيم الفرنسية بالديمقراطية والمواطنة. له تجربة مع بورقيبة ومع وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية في عهده. اختلف مع بورقيبة فأطرده ثم عاد مع بن علي حين التف حوله الجميع. ورحل عنه حين انقلب عن وعوده وشعاراته في بداية التسعينات. رجل في مجمله غير مورط في جرائم نظام بن علي ولا في جرائم نظام بورقيبة لو أرجعنا خلافه مع بورقيبة  لطريقة تعامل هذا الأخير مع الشعب. ما يهمنا في هذا الرجل أنه يبدو أن أصحاب القرار اقتنعوا أخيرا أنه لا يجب فرض خياراتهم على الشعب وأنهم بذلك سيبقون يدورون في حلق مفرغة في حين أن من مصلحة الجميع أن تستقر الأوضاع في تونس في أقرب وقت. ويبدو أنهم اقتنعوا أخيرا أن خوفهم من الإسلاميين ليس مبررا بما يكفي. وأنه يمكنهم إيجاد طرق للتعامل معهم في إطار أكثر عدالة. فكان الباجي قياد السبسي رجل المرحلة الذي قد ينجح في المرور بتونس إلى مر الأمان أقل قدر من الخسائر. هو إحدى الأوراق الرابحة الأخيرة بعد أن احترقت كثير من الأوراق قبله. ونتمنى من الله أن لا يصطدم مجددا مع الشعب وأن يصدق القول والنية وأن لا يستعمل الأجهزة الأمنية مرة أخرى كما فعل الغنوشي. وكما قيل في القصبة إن عدتم عدنا.

السلام عليكم  ورحمة الله وبركاته