الانتخاب بالقائمات هو الحل الأنجع للالتفاف على الثورة

في طريقة الإقتراع المثلى لانتخاب المجلس التأسيسي
الأستاذ عبد الوهاب معطر أستاذ جامعي في القانون العامّ ومحامي بصفاقس
أهميّة التوافق على نظام الإقتراع :
تعكف اللجنة المكلّفة من رئيس الدولة المؤقّت هذه الأيّام على التوافق حول قانون انتخابات المجلس التأسيسي المزمع تنظيمها يوم 24 جويلية 2011 .
ولا شكّ أنّ العمليّة الانتخابية هي عمليّة معقّدة ويتعيّن إحاطة جميع مفرداتها بالتدابير اللاّزمة الاّ أنّه ثمّة مسألة تحتلّ أهميّة خاصّة في هذا السياق وهي تلك المتعلّقة باختيار نظام الإقتراع بما لها من انعكاس مباشر على تركيبة المجلس . ذلك أنّ نظام الاقتراع هو الذي يحدّد القواعد المتّبعة لتحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد . فنفس العدد المعيّن من الأصوات المتحصّل عليها يمكن أن يؤدّي إلى مقاعد يختلف عددها حسب نظام الاقتراع المعتمد وهو ما يفسّر اهتمام الأنظمة السياسية بموضوعة أنظمة الاقتراع بشكل خاص وكثرة التنازع حولها بين الفرقاء السياسيين إلى حدّ لجأت معه بعض الدول إلى تنظيم استشارات شعبيّة لبلورة وفاق وطني حول نظام الاقتراع الأنسب إقراره . وهو ما ندعو إليه في بلادنا حتّى لا تكون هذه المسألة الحيويّة رهينة الأبواب المغلقة واللجنة المشكوك في شرعيّتها .

ولئن كان الاجماع حاصلا بخصوص تعدّد أنظمة الاقتراع وتنوّعها من جهة وعدم حياديّة أيّ واحد منها من جهة أخرى فإنّ هذا لا يحول دون البحث عن نظام الاقتراع الأمثل والأنسب في وضعيّة ما واختيار النظام الأكثر تلاؤما والأقدر على تحقيق الأهداف المراد بلوغها ذلك أنه لكلّ وضعيّة سياسيّة يمكن اختيار نظام اقتراع مثالي يتناسب معها .
وبتفعيل هذا المبدأ فإنّ ضبط نظام الاقتراع الأمثل لانتخاب المجلس التأسيسي التونسي يتطلّب الوقوف على خصوصيّة هذا المجلس من جهة وتشخيص البيئة السياسيّة والاجتماعية التي ستدور فيها هذه الانتخابات من جهة ثانية .

خصوصيّة المجلس التأسيسي : مهمّة محدّدة وظيفيّا ومحدودة زمنيّا

لا شكّ أنّ انتخابات 24 جويلية 2011 ليست انتخابات برلمانيّة أو رئاسيّة بل هي انتخابات تأسيسيّة بحكم أنها ستفضي إلى تعيين نواب الشعب في المجلس التأسيسي وهي بذلك انتخابات مخصوصة واستثنائيّة في تاريخنا . ومرّد ذلك إلى طبيعة مهام المجلس التأسيسي التي تتفرّع إلى وظيفتين أوّلهما وضع دستور جديد وثانيهما قيادة شؤون البلاد بواسطة حكومة مشكّلة أو مراقبة من طرفه .
وعلى الرغم من خطورة هذه المهام وتحكّمها في مستقبل البلاد وربّما بسبب ذلك فإنّ وظائف المجلس ستكون بالضرورة مؤقّتة زمنيّا أي أنّها ستمتدّ إلى حدود الأشهر اللاّزمة لاقرار الدستور وتزويد البلاد بالمؤسّسات السياسيّة الدائمة لها وفق التنظيم السياسي الذي سيقع إرساءه.
ونظرا لطبيعة مهمته المحدّدة وظيفياّ والمحدودة زمنيّا فإنّ المجلس التأسيسي يختلف عن الهيئة التشريعيّة (البرلمان أو مجلس النواب) التي تستمرّ إلى غاية نهاية مدّتها النيابيّة (5 أو 7 سنوات) وتكون لها اختصاصات واسعة للتشريع في الميادين السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية وغيرها .
وإنّ هذا الاختلاف بين المجلس التأسيسي والهيئة التشريعية هو أمر يجب أخذه بعين الاعتبار من طرف الناخبين حتّى لا يذهب بهم الظنّ أنّهم سينتخبون في جويلية القادم مجلس نواب ويعلّقون على من سينتخبوه آمالا لا علاقة له بها باعتبار أنّ عضو المجلس التأسيسي له مهمّة مخصوصة ومؤقّتة ومن المتعيّن على الناخب فهمها حتّى يكون قادرا على اختيار الشخص الأكفأ لتمثيله فيها ذلك أنّ المجلس التأسيسي للنجاح في مهمّته الأساسيّة المتمثّلة في اقرار دستور البلاد سيكون لا محالة في حاجّة أكيدة لأعضاء يجمعون في نفس الوقت بالخصوص بين الدّراية الكافية لتطلّعات الثورة والمعرفة الدنيا بالاشكالات الدستوريّة للأنظمة السياسيّة المختلفة حتّى يكون فاعلا في المجلس وصاحب رأي لا يقاد عن جهل .
وطبعا هذا لا يعني أبدا اشتراط أن يكون الناخب خبيرا بالضرورة في المسائل الدستوريّة بل فقط يحسن مراعاة هذا المعطى واعتباره عنصرا من جملة عناصر أخرى مطلوبة فيه ومنها قدرته على تمثيل الجهات المحرومة وشباب الثورة ونساءها كتمثّله للمتغيّرات الكبرى التي أحدثتها الثورة في النسيج الاجتماعي والسياسي ومن ثمّة فإنّ الصيغة الأجدى لتركيبة المجلس التأسيسي بعد انتخابه هو إرساء تعايش مثمر بين الاعتبارات السياسية والاعتبارات المعرفيّة والتقنيّة المأمول توفّرها في شخص النائب أو في المجلس عموما حتّى يتاح لهذا الأخير النهوض بمهمّته على أحسن وجه وفي أقصر الأوقات .
ولا شكّ أنّ مثل هذه الاعتبارات المطلوب توفّرها في النائب التأسيسي تختلف تماما عن تلك المطلوبة في النائب البرلماني وهو أمر لا بدّ للناخب الوعي به تماما حتّى يحسن الاختيار .

البيئة السياسيّة لانتخابات المجلس التأسيسي :

لئن كان للنائب التأسيسي تلك المواصفات المبيّنة أعلاه فإنّ ذلك من شأنه الدفع حول اقرار نظام اقتراع كفيل بإعانة الناخب التونسي على حسن اختيار من يمثّله.
بيد أنّ نظام الإقتراع الأمثل لا يمكن اختياره بمعزل عن الأوضاع العامّة التي سيقع تفعيله فيها ونقصد بذلك البيئة السياسيّة والاجتماعيّة لبلادنا في الفترة الفاصلة من هنا إلى يوم 24 جويلية 2011 .
ويمكننا عموما رصد الخطوط العريضة لهذه البيئة التي تتميّز بخصوصيّات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
فاجتماعيّا أبرزت الثورة عناصر عدّة مازالت فاعلة مثل الجهات الداخليّة المحرومة وجحافل الشبيبة المقهورة وخروج المجتمع من انغلاقه السابق وتحوّله إلى مجتمع مفتوح بين مكوّناته أصبح فيه الناس في حالة تواصل دائم .
أمّا على الصّعيد السياسي فقد أصبح للمواطنين تطلّعات كاسحة نحو الحريّة والكرامة وتصميم على القطع نهائيّا مع منظومة الاستبداد والفساد السّابقة .
ولكن بالمقابل فإنّ مجتمعنا الناهض ما يزال يفتقد بشكل فادح الى التأطير السياسي (الأحزاب) والانتظام المدني (الجمعيات) الضروريتين للديمقراطيّة بل أنّ الأفدح من ذلك هو ما نشهده اليوم من تردّد بل وتريّب المواطنين عموما من الإنخراط في الأحزاب جرّاء ما أورثهم الحزب الحاكم السابق وزعانفه الديكوريّة من مآسي فضلا عمّا يبعثه في نفوسهم هذا الكمّ الهائل من الأحزاب الوليدة ممّن لم يعرف لهم أيّ ماض إن لم يكن سلبا والحصيلة أنّ هذا الوضع المتميّز بتفكك النسيج الحزبي وافتقاد المجتمع للتأطير السياسي هو واقع ملموس لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار أيضا في انتخاب المجلس التأسيسي وتحديدا في نظام الإقتراع الموصل له .
سيناريو الانتكاس :

على الرغم من خطورة المهام الموكولة للمجلس التأسيسي كما أوضحنا وعلى الرغم من المستجدّات التي أحدثتها الثورة في مسام المجتمع التونسي فإنّ للبيئة السياسيّة التي نلمسها اليوم والمتميّزة بضعف التأطير السياسي وهزال الثقافة السياسيّة للمواطن التونسي يجعلان امكانيّة الالتفاف على مكاسب الثورة أمرا واردا ومحتملا الاّ أنّ هذا السيناريو الإنتكاسي المحتمل سوف لا يحدث لا قدر الله بالقوّة أو بالانقلاب بل أنّه سيكون "ديمقراطيّا" أي عن طريق انتخابات جويلية 2011 وذلك في صورة هيمنة القوى المحافظة أو تلك المعادية للثورة على المجلس التأسيسي سواءا عبر تحالفها الحزبي أو باستعمال امكانياتها الماليّة والماديّة وحتّى الإداريّة أو استفادتها من ضعف الأحزاب المناضلة فضلا عن الدعم الذي مازالت تلقاه من الجهات الأجنبيّة ذات التأثير المباشر في الشأن التونسي.
إنّ المطلوب اليوم أكثر من أيّ وقت مضى هو تفويت الفرصة على هذه القوى من الرّجوع بنا على الأعقاب وتحويل ثورتنا إلى مجرّد احتجاج لا يتجاوز سقفه بعض الإصلاحات الاسعافيّة يقع اخراجها في دستور جديد يؤسّس إلى نظام سياسي مفتوح على الديكتاتوريّة ويقرّ حريّات محسوبة وحكومة مؤقّتة قامعة وبذلك تصبح مهمّة قطع الطريق على تلكم القوى هو الهاجس الأساسي الأوّل الذي يجب الاقتياد به في اختيار نظام الإقتراع الأمثل في هذه الظروف التي تمرّ بها ثورة شعبنا.

نظام الإقتراع الأمثل :

طالما أنّ أنظمة الإقتراع غير محايدة وهي تلعب دورا حاسما في توزيع مقاعد المجلس على قاعدة الأصوات المتحصّل عليها فإنّ نظام الإقتراع المتعيّن إقراره يجب أن يأخذ بعين الاعتبار عاملين أساسيين وهما طبيعة مهمّة المجلس كما سبق التبسّط فيها من جهة وضرورة قطع الطريق على قوى الردّة للهيمنة عليه من جهة أخرى وهو ما يدعونا إلى تفحّص مختلف هذه الأنظمة وبيان أيّهما الأصلح اعتماده في انتخابات جويلية 2011 .

نظام القائمات ومخاطره:

وعموما ودون الدّخول في تفاصيل يعرفها أهل الاختصاص يمكن القول بأنّ أنظمة الإقتراع تقوم إمّا على القائمات أو على الأفراد . فأنظمة القائمات سواءا كانت بالأغلبيّة في دورة واحدة أو في دورتين أو بالتمثيل النسبي فهي تشترك جميعا فيما بينها في خصائص أهمّها أنّها تقوم على ادراج عدد من الأشخاص من حزب واحد أو من ائتلاف في قائمة واحدة بحيث يتعيّن على الناخب التصويت على تلك القائمة . كما أنّها تتطلّب بالضرورة دوائر انتخابيّة كبيرة الحجم مثل الولايات أو حتّى على المستوى الوطني في بعض صور التمثيل النسبي. ونظام القائمات يفرز عادة أغلبيّة في المجلس قد تكون أغلبيّة كاسحة (دورة واحدة) أو أغلبيّة ائتلافيّة (دورتان) أو أنّها تتيح لاحقا امكانيّة تشكيل كتلة متحالفة (التمثيل النسبي) .
وهكذا فإنّ نظام القائمات يشترط بالضرورة كأمر لازم توفّر مستوى معقول من الانتظام السياسي للجماهير ووجود أحزاب وتياّرات يحضنها الرأي العام وقادرة على التنافس الجدّي بينها وهو أمر غير متوفّر كما أسلفنا في تونس اليوم ذلك أنّه حتّى لو وقع اعتماد أحسن وأعدل نظام للقائمات وهو التمثيل النسبي فإنّ الغلبة والهيمنة سيكونان للحزب أو الائتلاف الحزبي الأسبق في عدد الأصوات على الرغم من ضعف تمثيليّته للرأي العام الذي ستذهب اختياراته سدى فضلا عن أنّ المواطن سيكون مضطرّا لإعطاء صوته لأشخاص لا يعرفهم وقع ادماجهم في قائمة كما أنّ الجهات والقرى المحرومة وشباب الثورة لا يكون لهم بالضرورة تمثيل حقيقي بالنظر لاتّساع وكبر حجم الدائرة الانتخابيّة .
ولا شكّ أنّ نظام القائمات سيفرز أغلبيّه في المجلس لكنّ هذه الأغلبيّة لا تحجب الكمّ الهائل من الأصوات الضائعة ممّا يقلّص من الثقل الانتخابي وشرعية هذه الأغلبيّة وذلك حتّى لو وقع إدخال تقنيات المزج والتشطيب على نظام القائمات لكن الأهمّ هو أنّ هذه الأغلبيّة التي سيفرزها نظام القائمات لا شيء يمنع احتمال تعارض أجندتها مع تطلعات الجماهير وعلى الرغم من ذلك ستكون قادرة على التصرف في مهام المجلس التأسيسي طبق خياراتها المحافظة بما يجعلنا وجها لوجه مع السيناريو الإنتكاسي .

النظام الفردي:

يتميّز هذا النوع من الإقتراع على تمكين الناخب من اختيار الشخص الذي يثق فيه بعينه ودون التقيّد بقائمة وبقطع النظر عن الانتماء وهو لذلك يستلزم دوائر انتخابية صغيرة الحجم (مثل المعتمديات أو حتى العمادات ) التي يعرف سكّانها بعضهم بعضا بما يتيح للناخب التعرّف على المرشّح بصفة شخصيّة ومن ثمّة يجعله قادرا على التواصل معه والتأثير في مواقفه ومساءلته ومحاسبته إعمالا لمبادىء الديمقراطيّة التشاركيّة .
ونظام الإقتراع على الأشخاص يفرز عادة نخبة قياديّة قد تكون قادرة مستقبلا على تأطير الجماهير وانتظامها خصوصا في مثل وضعيّة عدم الهيكلة السياسيّة لمجتمعنا حاليّا وإنّ تنزيل هذا النظام في تونس اليوم هو أحسن ضمان لتصعيد الشخصيّات والقوى السياسيّة ذات المصلحة المباشرة في انجاح المسيرة الثورية وهو الذي سيجعل تمثيل الشباب والمعتمديّات والقرى المنسيّة أمرا ممكنا مقابل سدّ منافذ المجلس التأسيسي على أشخاص العهد البائد بحكم انكشافهم محليّا وجهويّا .
صحيح أنّ نظام الإقتراع على الأشخاص قد يفرز مجلسا مشتّتا لا أغلبيّة فيه الاّ أنّ ذلك لا خوف منه ولا تبعات له لأنّ الوضع الثوري السائد حاليّا واتّجاهات الرأي العام كفيلة لوحدها بتشكيل تحالف طبيعي وتلقائي داخل المجلس بين الشخصيّات المصمّمة على القطع مع الماضي والتي تتقاسم بينها المحاور الكبرى للدستور الجديد وللحكومة ومن ثمّة فإنّ مثل هذا الاعتراض لا وزن له الآن سيّما أنّنا لسنا في سباق انتخاب مجلس نواب في نظام برلماني .
أمّا من يضخّم في تأثير الوجاهة المحليّة والنفوذ والعروشيّة والمال للاعتراض على نظام الاقتراع الفردي فإنّنا نحيله على ما أثبته شعبنا من وعي ويقظة في هذا المجال بما أتاح له انجاز ثورة استهدفت القضاء فعلا على هذه الأمراض فالوجهاء المحليّون وأصحاب المال والنفوذ كان لهم لسوء حظّهم صلات مع العهد البائد .
ومهما قلبنا الوضع فإنّ نظام الإقتراع الفردي على الأشخاص يظلّ هو الأمثل لمنع السيناريو الإنتكاسي ولقيادة ثورتنا إلى شاطىء النجاة ومن ثمّة فإنّنا ندعو إلى اعتماده لوحده ودون التفات إلى محاولات اللجنة المسمّاة " لجنة تحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي " إلى إقرار نظام مختلط يجمع بنسب مائوية مختلفة بين الإقتراع على القائمات والاقتراع على الأفراد . ذلك أنّ ادخال أيّة جرعة من نظام القائمات هو في الحقيقة جرعة مهداة لقوى الشدّ إلى الوراء .