تحليل لوضع الإعلام ومثقفين في تونس



وربما بحث الناظر عن سبب وقوف
هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح ؛ لمكانهم من
الدين ، فأقول : إن لذلك سببين : أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب ، وأن الذي
أجلسهم على الوثير ، وألبسهم من الحرير ، ورفع منزلتهم ، وجلعهم يعيشون عيش
المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم ، ولعلهم
برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق ، والشظف الذي كان يكابده
السلف ، وذلك ما يرجفون لذكراه ، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب ، فرأيت
منه من الأفكار ما سرك ، وتمنيت أن يكون ذا منصب ، حتى يكون للإصلاح خير
ظهير ، هذا أضعف السببين . وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم
الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة ، ما داموا علماء رسميين ، فغالطوا أنفسهم كما
غالطهم أولو الأمر ، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم .
أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا ، ولكن هو وصف لمن اتصفوا
بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون ، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة
يمنحها الولاة للذوات ، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل
تحصيلها ، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء
أحرارًا في الاستنباط والفهوم ، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد ، ولكن ملوك
الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني ، اضطروا
إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها ، فتجعله للدين أصلاً ،
ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل ، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو
البضاعة المزجاة في العلوم ، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى
أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام ، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا
رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه . ولم يخل قرن من الأيام الخالية
من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال ، وما هو إلا أن
يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله ، فيجردون عليه جيشًا من
أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف ؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني
عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان ، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت
صوته ، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين ، وهم
يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين ، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث
الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين ، وهو خوف رجوع أولي الأمر ، والعامة إلى
أولئك النابغين ، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق ، ويظهر جليًا عليهم
القصور ...
إمضاء سليمان الجادوي عنوانه : (هل إلى الرقي من سبيل) تونس 1925.-الله يرحمك جدي